فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} نزلت بسبب الفيء المذكور: أي ما أتاكم الرسول من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار عنه، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نواهيه، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{للفقراء} هذا بدل من قوله: {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ليبين بذلك أن المراد المهاجرين، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم؛ لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها أموالهم وديارهم.
{والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم، والضمير في قبلهم للمهاجرين.
فإن قيل: كيف قال تبوؤا الدار والإيمان وإنما تتبوّأ الدار. أي تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟
فالجواب من وجهين: الأول أن معناه تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك: فعلفتها تبنًا وماء باردًا، تقديره: علفتها تبنًا وسقيتها ماء باردًا، الثاني أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك.
فإن قيل: قوله من قبلهم، يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد بقوله من قبلهم من قبل هجرتهم، والآخر أنه أراد تبوؤا الدار مع الإيمان معًا. أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوّئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن، لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول، فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار.
{وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} قيل: إن الحاجة هنا بمعنى الحسد، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها، والضمير في يجدون للأنصار، وفي أوتوا المهاجرين، والمعنى: أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره، ولا يجدون في صدورهم شيئًا بسبب ذلك {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} أي يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج، والخصاصة هي الفاقة، وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة وروُي أيضًا «أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته: والله ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال لها: نوّمي صبيانك وأطفئي السراج، وقدمي ما عندك للضيف، ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل، ففعلا ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون}» شحّ النفس: هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين.
{والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} هذا معطوف على المهاجرين والأنصار المذكورين قبل، فالمعنى أن الفيء للمهاجرين والأنصار ولهؤلاء الذين جاؤوا من بعدهم، ويعني بهم الفرقة الثالثة من الصحابة وهم ما عدا المهاجرين والأنصار كالذين أسلموا يوم الفتح. وقيل: يعني من جاء بعد الصحابة وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة، وعلى هذا حملها مالك فقال: إن من قال في أحد الصحابة قول سوء فلا حظ له في الغنيمة والفيء، لأن الله وصف الذين جاؤوا بعد الصحابة بأنهمه: يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فمن قال ضدّ ذلك فقد خرج عن الذين وصفهم الله.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ} الآية: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وقوم من المنافقين بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في حصونكم فإنا معكم كيف ما تقلبت حالكم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} أي لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم، ثم كذبهم الله في هذه المواعيد التي وعدوا بها.
فإن قيل: كيف قال لئن نصروهم ليولنّ الأدبار بعد قوله: {لاَ يُنصَرُونَ}؟
فالجواب: أن المعنى على الفرض والتقدير أي لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار.
{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} الرهبة هي الخوف، والمعنى أن المنافقين واليهود يخافون الناس أكثر مما يخافون الله.
{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إلا وهم في قرى محصنة؛ بالأسوار والخنادق أو من وراء الحيطان دون أن يخرجوا إليكم {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني عداوة بعضهم لبعض {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتى} أي تظن أنهم مجتمعون بالألفة والمودة وقلوبهم متفرقة بالمخالفة والشحناء.
{كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} أي هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم يعني يهد بني قينقاع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا أمثالهم. وقيل: يعني أهل بدر الكفار، فإنهم قبلهم ومثلًا لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح: لأن قوله: {قَرِيبًا} يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة، وذلك أوقع على بني قينقاع، وأيضًا فإن تمثيل بني النضير ببني القينقاع أليق لأنهم يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم كما فعل بهم وذلك هو المراد بقوله: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} وقريبًا ظرف الزمان.
{كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قال لِلإِنسَانِ اكفر} مثَّل الله المنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان فإنه يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس، وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشًا يوم بدر وقال لهم: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النار} الضميران يعودان على الشيطان والإنسان، وفي ذلك تمثيل للمنافقين واليهود.
{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} هذا أمر بأن تنطر كل نفس ما قدمت من أعمالها ليوم القيامة، ومعنى ذلك محاسبة النفس لتكف عن السيئات وتزيد من الحسنات، وإنما عبَّر عن يوم القيامة بغد تقريبًا له، لأن كل ما هو آت قريب، فإن قيل: لم كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه تأكيد، والآخر وهو الأحسن أنه أمر أولًا بالتقوى استعدادًا ليوم القيامة، ثم أمر به ثانيًا لأن الله خبير بما يعملون، فلما اختلف الموجبات كرره مع كل واحد منهما {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} يعني الكفار، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الغفلة، أي نسوا حقّ الله فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها.
{لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ} الآية: توبيخ لابن آدم على قسوة قلبه، وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن فإنه أذا كان الجبل يخشغ ويتصدع لو سمع القرآن فما ظنك بابن آدم.
{عَالِمُ الغيب والشهادة} أي يعلم ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه، وقيل: الغيب الآخرة والشهادة الدنيا، والعموم أحسن.
{القدوس} مشتق من التقديس، وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، وصيغة فعول للمبالغة كالسبوح {السلام} في معناه قولان: أحدهما الذي سلَّم عباده من الجور، والآخر السليم من النقائص، وأصله مصدر بمعنى السلامة، وصف به مبالغة أو على حذف مضاف تقديره ذو السلام {المؤمن} فيه قولان: أحدهما أنه من الأمن الذي أمّن عباده، والآخر أنه من الإيمان أي المصدق لعباده في إيمانهم، أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة، أو المصدق نفسه في أقواله {المهيمن} في معناه ثلاثة أقوال: الرقيب والشاهد والأمين، قال الزمخشري: أصله مؤيمن بالهمزة ثم أبدلت هاء {الجبار} في معناه قولان: أحدهما أنه من الإجبار بمعنى القهر، والآخر أنه من الجبر أن يجبر عباده برحمته، والأول أظهر {المتكبر} أي الذي له التكبر حقًا {البارئ} أي الخالق يقال: أبرأ الله الخلق أي خلقهم ولكن البارئ والفاطر يراد بهما الذي برأ الخلق واخترعه {المصور} أي خالق الصور {لَهُ الأسماء الحسنى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين إسمًا من أحصاها دخل الجنة».
قال المؤلف: قرأت القرآن على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن الكماد فلما بلغت إلى آخر سورة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك. فقالت له: ولم ذلك؟ قال: لأني قرأت على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك، وأسند الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال: «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك. قلت: ولم ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال: أقرأني جبريل القرآن فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر، قال لي: ضع يدك على رأسك يا محمد، قلت: ولم ذاك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر الملائكة أن تضع أيديها على رؤوسها. فقالت: يا ربنا ولم ذاك؟ قال: إنه شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت». اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الحشر مدنية وآيها أربع وعشرون آية.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} روي «أنه عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا إلى مكة وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة، ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة» فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ} إلى قوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}.
{هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأَِوَّلِ الحشر} أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام، وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه، أو في أول حشر الناس إلى الشام وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك، أو أن نارًا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب. والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر. {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} لشدة بأسهم ومنعتهم. {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم، وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها، ويجوز أن تكون {حُصُونُهُم} فاعلًا ل {مَّانِعَتُهُمْ}. {فأتاهم الله} أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء، وقيل الضمير لـ: {المؤمنين} أي فأتاهم نصر الله، وقرئ {فأتاهم الله} أي العذاب أو النصر. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} لقوة وثوقهم. {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها. {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} ضنًا بها على المسلمين وإخراجًا لما استحسنوا من آلاتها. {وَأَيْدِى المؤمنين} فإنهم أيضًا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعًا لمجال القتال. وعطفها على (أيديهم) من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه، والجملة حال أو تفسير ل {الرعب}. وقرأ أبو عمرو {يُخْرِبُونَ} بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير. وقيل الإِخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابًا والتخريب الهدم. {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله، واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية.
{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} الخروج من أوطانهم. {لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا} بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. {وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابُ النار} استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.